فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

قال ابن القيم:
{إذا الشمس كورت}
قرأ قارئ {إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سيرت}
وفي الحاضرين أبو الوفاء بن عقيل فقال له قائل يا سيدي هب أنه أنشر الموتى للبعث والحساب وزوج النفوس بقرنائها بالثواب والعقاب فلم هدم الأبنية وسير الجبال ودك الأرض وفطر السماء ونثر النجوم وكور الشمس فقال إنما بني لهم الدار للسكني والتمتع وجعلها وجعل ما فيها للاعتبار والتفكر والاستدلال عليه بحسن التأمل والتذكر فلما انقضت مدة السكنى وأجلاهم من الدار خربها لانتقال الساكن منها فأراد أن يعلمهم بأن الكونين كانت معمورة بهم وفي إحالة الأحوال وإظهار تلك الأهوال وبيان المقدرة بعد بيان العزة وتكذيب لأهل الإلحاد وزنادقة المنجمين وعباد الكواكب والشمس والقمر والأوثان فيعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين فإذا راوا آلهتهم قد انهدمت وأن معبوداتهم قد انثرت وانفطرت ومحالها قد تشققت ظهرت فضائحهم وتبين كذبهم وظهر أن العالم مربوب محدث مدبر له رب يصرفه كيف يشاء تكذيبا لملاحدة الفلاسفة القائلين بالقدم فكم لله تعالى من حكمة في هدم هذه الدار ودلالة على عظم عزته وقدرته وسلطانه وانفراده بالربوبية وانقياد المخلوقات بإسرها لقهره وإذ عانها لمشيئته فتبارك الله رب العالمين. اهـ.

.تفسير الآيات (10- 14):

قوله تعالى: {وَإِذَا الصحف نشرت (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الجحيم سعرت (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما دل هذا على عموم السؤال، ذكر ما ينشأ عنه مما يدل على النعيم أو النكال فقال: {وإذا الصحف} أي الأوراق التي كتبت فيها أعمال العباد {نشرت} أي فرقت مفتحة تفتيحاً عظيماً على أربابها بأيسر أمر فتأتي السعيد في يمينه من تلقاء وجهه على وجه يكون فيه بشارة له، وتأتي الشقي من وراء ظهره وفي شماله بعد أن كانت طويت عند موته، ونشرها مثل تسيير الجبال وتطايرها، فمن اعتقد أن صحيفته ثابتة فترديه أو تنجيه لم يضع فيها إلا حسناً من قول أو عمل أو اعتقاد.
ولما ذكر ما يطلق وينشر، أتبعه ما يطوى ويحصر، ليبدو ما فوقه من العجائب وينظر، فقال: {وإذا السماء} أي هذا الجنس كله، أفرده لأنه يعلم بالقدرة على بعضه القدرة على الباقي {كشطت} أي قلعت بقوة عظيمة وسرعة زائدة وأزيلت عن مكانها التي هي ساترة له محيطة به، أو عن الهواء المحيط بسطحها الذي هو كالروح لها كما يكشط الإهاب عما هو ساتر له ومحيط به مع شدة الالتزاق به لأن ذلك يوم الكشف والإظهار {فكشفنا عنك غطاءك} [ق: 22] وكشطها هو مثل انكشاف الناس عن العشار وتفرقهم عنها، فمن اعتقد زوالها أعرض عن ربط همته بشيء منها وناط أموره كلها بربها.
ولما زالت الموانع ظهرت عجائب الصنائع التي هي غايات المطالب، ونهايات الرغائب والرهائب، فقال: {وإذا الجحيم} أي النار الشديدة التأجج والتي بعضها فوق بعض والعظيمة في مهواة عميقة {سعرت} أي أوقدت إيقاداً شديداً بأيسر أمر وقربت من الكافرين بغاية السرعة، فكان الأمر في غاية العسر، وذلك قريب من نتيجة ما يحصل من الهول من حشر الوحوش.
ولما ذكر دار الأعداء البعداء ترهيباً، أتبعه دار المقربين السعداء ترغيباً، فقال: {وإذا الجنة} أي البستان ذو الأشجار الملتفة والرياض المعجبة {أزلفت} أي قربت من المؤمنين ونعمت ببرد العيش وطيب المستقر، ودرجت درجاتها وهيئت، وملئت حياضها ومصانعها، وزينت صحافها ونظفت أرضها وطهرت عن كل ما يشين، وحسنت رياضها بكل ما يزين، من قول أهل اللغة، الزلف- محركة: القربة والدرجة والحياض الممتلئة والزلفة: المصنعة الممتلئة والصحفة والأرض المنكوسة، والزلف- بالكسر.
الروضة، ومعنى هذا ضد سجر البحار، فالآية من الاحتباك: ذكر التسعير أولاً دال على ضده في الجنة ثانياً، وذكر التقريب ثانياً دال على مثله أولاً.
ولما كانت هذه الأشياء لهولها موجبة لاجتماع الهم وصرف الفكر عما يشغله من زينة أو لهو أو لعب أو سهو، فكان موجباً للعلم بما يرجى نعيماً أو يوجب جحيماً، وكان ذلك موجباً لتشوف السامع إلى ما يكون، قال تعالى كاشفاً تلك النعمة بالعامل في (إذا) وما عطف عليها: {علمت نفس} أي كل واحدة من النفوس، فالتنكير فيه مثله في (ثمرة خير من جرادة) ودلالة هذا السياق المهول على ذلك يوجب اليقين فيه {ما} أي كل شيء {أحضرت} أي عملت وأوجدت، فكان أهلاً للحضور، وكان عمله لها سبباً لإحضار القدير إياه لها في ذلك اليوم محفوظاً لم يغب عنه منها ذرة من خيره وشره، فلأجل ذلك كان لكل امرئ شأن يعنيه، فإنه لابد أن يكون في أعماله ما لا يرضيه وما يستصغره عن حضرة العلي الكبير، فمن اعتقد ذلك رغب في أن لا يحضر إلا ما يسره، ورهب في إحضار ما يسوءه فيضره، وجميع هذه الأشياء الاثني عشر المعدودة المذكورة في حيز (إذا) في الآخرة بعد النفخة الثانية على ما تقدم في الحاقة أنه الظاهر، وأنه رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما، لأن التهويل بعد القيام أنسب، وأدخل في الحكمة وأغرب.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما قال سبحانه: {فإذا جاءت الصاخة يوم يفر المرء من أخيه} [عبس: 33- 34] الآيات إلى آخر السورة، كان مظنة لاستفهام السائل عن الوقوع متى يكون؟ فقال تعالى: {إذا الشمس كورت} [التكوير: 1] ووقوع تكوير الشمس وانكدار النجوم وتسيير الجبال وتعطيل العشار كل ذلك متقدم على فرار المرء من أخيه وأمه وأبيه- إلى ما ذكر إلى آخر السورة لاتصال ما ذكر في مطلع سورة التكوير بقيام الساعة، فيصح أن يكون أمارة للأول وعلماً عليه- انتهى. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

التاسع: قوله تعالى: {وَإِذَا الصحف نشرت}.
قرئ بالتخفيف والتشديد يريد صحف الأعمال تطوى صحيفة الإنسان عند موته، ثم تنشر إذا حوسب، ويجوز أن يراد نشرت بين أصحابها، أي فرقت بينهم.
العاشر: قوله تعالى: {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ}.
أي كشفت وأزيلت عما فوقها، وهو الجنة وعرش الله، كما يكشط الإهاب عن الذبيحة، والغطاء عن الشيء، وقرأ ابن مسعود: {قشطت}، واعتقاب القاف والكاف كثير، يقال لبكت الثريد ولبقته، والكافور والقافور.
قال الفراء: نزعت فطويت.
الحادي عشر: قوله تعالى: {وَإِذَا الجحيم سعرت}. أوقدت إيقاداً شديداً وقرئ {سعرت} بالتشديد للمبالغة.
قيل: سعرها غضب الله، وخطايا بني آدم، واحتج بهذه الآية من قال: النار غير مخلوقة الآن، قالوا: لأنها تدل على أن تسعيرها معلق بيوم القيامة.
الثاني عشر: قوله تعالى: {وَإِذَا الجنةُ أُزْلِفتْ}.
أي أدنيت من المتقين، كقوله: {وأزلفت الجنة للمتقين}.
ولما ذكر الله تعالى هذه الأمور الإثني عشر ذكر الجزاء المرتب على الشروط الذي هو مجموع هذه الأشياء فقال: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ}.
ومن المعلوم أن العمل لا يمكن إحضاره، فالمراد إذن ما أحضرته في صحائفها، وما أحضرته عند المحاسبة، وعند الميزان من آثار تلك الأعمال، والمراد: ما أحضرت من استحقاق الجنة والنار.
فإن قيل كل نفس تعلم ما أحضرت، لقوله: {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً} [آل عمران: 30] فما معنى قوله: {علمت نفس}؟
قلنا: الجواب: من وجهين الأول: أن هذا هو من عكس كلامهم الذي يقصدون به الإفراط، وإن كان اللفظ موضوعاً للقليل، ومنه قوله تعالى: {ربما يود الذين كفروا} [الحجر: 2] كمن يسأل فاضلاً مسألة ظاهرة ويقول: هل عندك فيها شيء؟ فيقول: ربما حضر شيء وغرضه الإشارة إلى أن عنده في تلك المسألة ما لا يقول به غيره.
فكذا هاهنا الثاني: لعل الكفار كانوا يتعبون أنفسهم في الأشياء التي يعتقدونها طاعات ثم بدا لهم يوم القيامة خلاف ذلك فهو المراد من هذه الآية. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَإِذَا الصحف نشرت} أي فُتحت بعد أن كانت مطوية، والمراد صحف الأعمال التي كَتَبَت الملائكة فيها ما فعل أهلها من خير وشر، تُطوى بالموت، وتنشر في يوم القيامة، فيقف كل إنسان على صحيفته، فيعلم ما فيها، فيقول: {مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ ُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 49].
وروَى مَرْثَد بن وَدَاعة قال: إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش، فتقع صحيفة المؤمن في يده {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الغاشية: 10] إلى قوله: {الأيام الخالية} [الحاقة: 24] وتقع صحيفة الكافر في يده {فِي سَمُومٍ وحَمِيم} إلى قوله: {ولا كريم}.
ورُوِي عن أمّ سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يُحْشَر الناس يوم القيامة حُفاة عراة» فقلت: يا رسول الله! فكيف بالنساء؟ قال: «شُغِل الناس يا أمَّ سَلَمة».
قلت: وما شَغَلَهم؟ قال: «نشر الصحف فيها مثاقيل الذرّ ومثاقيل الخردل».
وقد مضى في سورة (سُبْحان) قول أبي الثوّار العدَوِيّ: هما نشرتان وطَيَّة، أما ما حييت يا بن آدم فصحيفتك المنشورة، فأملِ فيها ما شئت، فإذا مِت طوِيت، حتى إذا بُعثت نشرت {اقرأ كِتابك كفى بِنفسِك اليوم عليك حسِيباً} [الإسراء: 14].
وقال مقاتل: إذا مات المرء طُوِيت صحيفة عمله، فإذا كان يوم القيامة نشرت.
وعن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا قرأها قال: إليك يساق الأمر يا بن آدم.
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وأبو عمرو {نشرت} مخففة، على نشرت مرة واحدة، لقيام الحجة.
الباقون بالتشديد، على تكرار النشر، للمبالغة في تقريع العاصي، وتبشير المطيع.
وقيل: لتكرار ذلك من الإنسان والملائكة الشهداء عليه.
قوله تعالى: {وَإِذَا السماء كُشِطَتْ}: الكشط: قَلْع عن شدّة التزاق؛ فالسماء تُكْشَط كما يكْشَط الجلد عن الكبش وغيره، والقَشْط: لغة فيه.
وفي قراءة عبد الله {وَإِذَا السماء قُشِطَت} وكَشَطْتُ البعير كشطاً: نزعت جلده، ولا يقال سَلَخْته؛ لأن العرب لا تقول في البعير إلا كَشَطْته أو جَلَّدته، وانكشط: أي ذهب؛ فالسماء تُنْزَع من مكانها كما ينزع الغِطاء عن الشيء.
وقيل: تُطوى كما قال تعالى: {يوم نَطْوِي السماء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ}، فكأن المعنى: قلِعت فطويت.
والله أعلم.
قوله تعالى: {وَإِذَا الجحيم سعرت} أي أوقدت فأُضْرمت للكفار وزيدَ في إحمائها.
يقال: سعرت النار وأسعرتها.
وقراءة العامة بالتخفيف من السعير.
وقرأ نَافع وابن ذَكوانَ ورُوَيْس بالتشديد؛ لأنها أوقدت مرة بعد مرة.
قال قتادة: سَعَّرها غضب الله وخطايا بني آدم.
وفي الترمذِيّ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أوقد على النار ألفَ سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألفَ سنةٍ حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألفَ سنة حتى اسودت، فهي سوداء مُظلمة» ورُوِي موقوفاً.
قوله تعالى: {وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ} أي دَنَتْ وقُرِّبت من المتقين.
قال الحسن: إنهم يُقَرَّبون منها؛ لا أنها تزول عن موضعها.
وكان عبد الرحمن بن زيد يقول: زُينت: أزْلِفَتْ؟ والزلفى في كلام العرب: القُربة؛ قال الله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء: 90] وتزلف فلان تقرب.
قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ} يعني ما عملت من خير وشر.
وهذا جواب {إِذَا الشمس كورت} وما بعدها.
قال عمر رضي الله عنه لهذا أُجري الحديث.
ورُوِيَ عن ابن عباس وعمر رضي الله عنهما أنهما قرأها، فلما بلغا {علِمت نفس ما أحْضَرت} قالا لهذا أجريت القصة؛ فالمعنى على هذا إذا الشمس كورت وكانت هذه الأشياء، علمت نفس ما أحضرت من عملها.
وفي الصحيحين عن عديّ بن حاتم قال.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله ما بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدّمه وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم بين يديه، فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل» وقال الحسن: {إِذ الشمس كورت} قسم وقع على قوله: {علِمت نفس ما أحضرت} كما يقال: إذا نفَرَ زيد نفر عمرو.
والقول الأوّل أصح.
وقال ابن زيد عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِذَا الشمس كورت} إلى قوله: {وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ} اثنتا عشرة خصلة: ستة في الدنيا، وستة في الآخرة؛ وقد بينا الستة الأولى بقول أبيّ بن كعب. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَإِذَا الصحف نشرت} أي صحف الأعمال أخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال إذا مات الإنسان طويت صحيفته ثم تنشر يوم القيامة فيحاسب بما فيها وقيل {نشرت} أي فرقت بين أصحابها عن مرثد بن وداعة إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنة عالية وتقع صحيفة الكافر في يده في سموم وحميم أي مكتوب فيها ذلك وهي صحف غير صحف الأعمال وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي {نشرت} بالتشديد للمبالغة في النشر بمعنييه أو لكثرة الصحف أو لشدة التطاير.
{وَإِذَا السماء كُشِطَتْ} قلعت وأزيلت كما يكشف الإهاب عن الذبيحة والغطاء عن الشيء المستور به فأصل الكشط السلخ واستعير هنا للإزالة وقرأ عبد الله {قشطت} بالقاف مكان الكاف واعتقابهما غير عزيز كالكافور والقافور وعربي قح وكح.
{وَإِذَا الجحيم سعرت} أي أوقدت إيقاداً شديداً قال قتادة سعرها غضب الله تعالى وخطايا بني آدم وقرأ جمع منهم على كرم الله تعالى وجهه {سعرت} بالتخفيف.
{وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ} أي قربت من المتقين كقوله تعالى: {وأزلفت للجنة للمتقين غير بعيد} [ق: 31] أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن أبي العالية أنه قال: ست آيات من هذه السورة في الدنيا والناس ينظرون وست في الآخرة إذا الشمس كورت إلى {وإذا البحار سجرت} [التكوير: 1-6] هذه في الدنيا وإذا النفوس زوجت إلى {وإذا الجنة أزلفت} [التكوير: 7-13] هذه في الآخرة وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي بن كعب أنه قال: ست آيات قيل يوم القيامة بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس فبينما هم كذلك إذ انكدرت النجوم فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فتحركت واضطربت ففزعت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن واختلطت الدواب والطير والوحش فماجوا بعضهم في بعض وأهملت العشار وقال الجن للإنس نحن نأتيكم بالخبر فانطلقوا إلى البحر فإذا هو نار تأجج فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض صدعة واحدة فبينما هم كذلك إذ جاءتهم ريح فإما تتهم وقال بعضهم: إن الست الأولى فيما بين النفختين وأنه مراد من قال إنها في الدنيا وقيل هي فيما قبل النفخة الأولى وما بعدها إلى النفخة الثانية فلا تغفل.
{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ} جواب {إذا} على أن المراد بها زمان واحد ممتد يسع الأمور المذكورة مبدؤه قبيل النفخة الأولى أو هي ومنتهاه فصل القضاء بين الخلائق لكن لا بمعنى أن النفس تعلم ما تعلم في كل جزء من أجزاء ذلك الوقت المديد أو عند وقوع داهية من تلك الدواهي بل عند نشر الصحف إلا أنه لما كان بعض تلك الدواهي من مباديه وبعضها من روادفه نسب علمها بذلك إلى زمان وقوع كلها تهويلاً للخطب وتفظيعاً للحال والمراد بما أحضرت أعمالها من الخير والشر وبحضور الأعمال أما حضور صحائفها كما يعرب عنه نشرها وأما حضور أنفسها على ما قالوا من أن الأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصور عرضية تبرز في النشأة الآخرة بصور جوهرية مناسبة لها في الحسن والقبح على كيفيات مخصوصة وهيئات معينة حتى أن الذنوب والمعاصي تتجسم هنالك وتتصور وحمل على ذلك نحو قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَاراً} [النساء: 10] وعن ابن عباس ما يؤيده ويؤيده أيضاً حديث ذبح الموت ونحوه قيل ولا بعد في ذلك ألا يرى أن العلم يظهر في عالم المثال على صورة اللبن كما لا يخفى على من له خبرة بأحوال الحضرات الخمس وقد حكي عن بعض الأكابر أنهم يشاهدون في هذه النشأة الأعمال عند العروج بها إلى السماء وكان ذلك بنوع من التجسد وأياً ما كان فإسناد إحضارها إلى النفس مع أنها تحضر بأمر الله تعالى كما تؤذن به قوله تعالى: {يوم تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا} [آل عمران: 30] الآية لأنها لما عملتها في الدنيا فكأنها أحضرتها في الموقف ومعنى علمها بها على التقدير الأول اطلاعها عليها مفصلة في الصحف بحيث لا يشذ عنها منها شيء كما ينبئ عنه قولهم {مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها} [الكهف: 49] وعلى التقدير الثاني أنها تشاهدها على ما هي عليه في الحقيقة فإن كانت صالحة تشاهدها على صور أحسن مما كانت تدركها في الدنيا لأن الطاعات لا تخلو فيها عن نوع مشقة وإن كانت سيئة تشاهدها على خلاف ما كانت عندها في الدنيا كانت مزينة لها موافقة لهواها وتنكير النفس المفيد لثبوت العلم لفرد من النفوس أو لبعض منها للإيذان بأن ثبوته لجميع أفرادها قاطبة من الظهور والوضوح بحيث لا يكاد يحوم حوله شائبة قطعاً يعرفه كل أحد ولو جيء بعبارة تدل على خلافه وللرمز إلى أن تلك النفوس العالمة بما ذكر مع توفر أفرادها وتكثر أعدادها مما تستقل بالنسبة إلى جناب الكبرياء والعظمة الذي أشير إلى بعض بدائع شؤونه المنبئة عن عظم سلطانه عز وجل وفي (الكشاف) إن هذا من عكس كلامهم الذي يقصدون فيه الإفراط فيما يعكس عنه ومنه قوله تعالى: {رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2] ومعناه كم وأبلغ وقول القائل:
قد أترك القرم مصفراً أنامله ** كان أثوابه مجت بفرصاد

وتقول لبعض قواد العساكر كم عندك من الفرسان فيقول رب فارس عندي أولاً تعدم عندي فارساً وعنده المقانب وقصده بذلك التمادي في تكثير فرسانه ولكنه أراد إظهار براءته من التزيد وأنه ممن يقلل كثير ما عنده فضلاً أن يتزيد فجاء بلفظ التقليل ففهم منه معنى الكثرة على الصحة واليقين وبين بالكشف أنه يفيد ذلك مع ما في خصوص كل موقع من فائدة خاصة وذكر أن من الفوائد هاهنا تهويل اليوم بتقليل الأنفس العالمة وإن كن جميعها وإظهار أنه كلام من غاية العظمة والكبرياء وأن من يغير هذه الأجرام العظام ويبدلها صفات وذوات تستقل الأنفس الإنسانية في جنب قدرته سبحانه أيما استقلال وتعقب ذلك أبو السعود بما لا يخلو عن نظر كما لا يخفى على ذي نظر جليل فضلاً عن ذي نظر دقيق وجوز أن يكون ذلك للإشعار بأنه إذا علمت حينئذٍ نفس من النفوس ما أحضرت وجب على كل نفس إصلاح عملها مخافة أن تكون هي تلك التي عملت ما أحضرت فكيف وكل نفس تعلمه على طريقة قولك لمن تنصحه لعلك ستندم ما فعلت وربما ندم الإنسان على ما فعل فإنك لا تقصد بذلك أن ندمه مرجو الوجود لا متيقن به أو نادر الوجود بل تريد أن العاقل يجب عليه أن يجتنب أمراً يرجى منه الندم أو قل ما يقع فيه فكيف إذا كان قطعي الوجود كثير الوقوع واشتهر أن النكرة هنا في معنى العموم وهي قد تعم في الإثبات إذا اقتضى المقام أو نحوه ذلك ومنه قول ابن عمر لبعض أهل الشام وقد سأله عن المحرم إذا قتل جرادة أيتصدق بتمرة فدية لها تمرة خير من جرادة قيل ولهذا العموم ساغ الابتداء بالنكرة فيه وقول بعض أنه لا عموم فيها بل العموم جاء من تساوي نسبة الجزء إلى أفراد الجنس قيل مبني على ظن منافاة العموم للوحدة والإفراد وأنت تعلم أن ذلك إنما ينافي العموم الشمولي دون البدلي وقال بعض لا يبعد أن يقال استفيد العموم بجعلها في حيز النفي معنى لأن علمت نفس في معنى لم تجهل نفس لأن الحكم بالشيء يستلزم نفي ضده ليس بشيء وإلا لعمت كل نكرة في الإثبات بنحو هذا التأويل وعن عبد الله بن مسعود أن قارئاً قرأ هذه السورة عنده فلما بلغ {علمت نفس ما أحضرت} قال وانقطاع ظهرياه. اهـ.